بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد القهار ، العزيز الغفار ، مكور الليل على النهار تبصرة لأولي القلوب والأبصار أحمده سبحانه {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17].
قال مجاهد {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ} لِلشَّمْسِ فِي الشِّتَاءِ مَشْرِقٌ وَمَشْرِقٌ فِي الصَّيْفِ {ورَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} مَغْرِبُهَا فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ .
والله سبحانه رب الدهر كله وحديثني سيكون عن الشتاء والكلام عن الشتاء يطول والحديث فيه ذو شجون، فإذا أقبل الشتاء فحيا هلاً بـغنيمة العابدين وربيع المؤمنين
ألم تعلموا أنّ الصوم في الشتاء غنيمة باردة
فقد روى الترمذي في سننه عَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : «الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ» وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول : ألا أدلكم على الغنيمة الباردة ، قالوا : بلى، فيقول : الصيام في الشتاء [وصححه الألباني رحمه الله]
ومعنى الغنيمة الباردة: أي السهلة ولأن حرارة العطش لا تنال الصائم فيه .
قال ابن رجب رحمه الله: "قيام ليل الشتاء يعدل صيام نهار الصيف".
وثبت عن عمر رضي الله عنه أنّه قال: "الشتاء غنيمة العابدين". رواه أبو نعيم بإسناد صحيح
وجاء في حديث حسن لغيره : "الشتاء ربيع المؤمن: طال ليله فقامه، و قصر نهاره فصامه".
قال ابن رجب: "إنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنّه يرتع في بساتين الطاعات ويسرح في ميادين العبادات ويُنْزِّه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه".
وقد أكد السلف على ذلك وعلى رأسهم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وكانوا يعتنون بالشتاء ويرحبون بقدومه ويفرحون بذلك ويحثون الناس على اغتنامه .
فعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "مرحبًا بالشتاء، تنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام".
ولله در الحسن البصري من قائل: "نعم زمان المؤمن الشتاء ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه".
وعن الحسن أيضاً أنّه قال: "الشتاء ذَكْر وفيه اللقاح والصيف أنثى وفيه النتاج".
وعن عبيد بن عمير- رحمه الله - : أنه كان إذا جاء الشتاء قال: "يا أهل القرآن! طال ليلكم لقراءتكم فاقرؤوا، وقصر النهار لصيامكم فصوموا".
فإذا لم نصم صيام داود "وهو أن نصوم يوماً ونفطر يوماً" أفلا نصوم الاثنين والخميس، وإذا كان ذلك صعبا علينا في هذا الزمان أفلا نصوم الأيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر قمري، بل إن «من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله» سواء كان من أول الشهر أو وسطه أو آخره .
فرصة ذهبية للمُتَنفْْل الذي يبتغي الأجر من الله رب العالمين وغنيمة باردة له ولمن عليه قضاء من أهل الأعذار أو من عليه كفارات هؤلاء يغتنموا جميعاً هذه الغنيمة الباردة
ومن الأجور العظيمة التي ثبت لفاعلها الثواب الجزيل في الشتاء الوضوء على المكاره:
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ ؟». قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ : «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ» [رواه مسلم].
وهكذا دلنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هذا الأجر العظيم المتثمل في مَحْو الْخَطَايَا وغُفْرَانهَا وَرَفْع الدَّرَجَات بإِعْلَاء الْمَنَازِل فِي الْجَنَّة.
فمن الأعمال التي جاء ذكرها في الحديث َإِسْبَاغ الْوُضُوء عَلَى الْمَكَارِهِ يعني إِتْمَامُهُ وَإِكْمَالُهُ بِاسْتِيعَابِ الأعضاء بِالْغُسْلِ وَتَطْوِيلِ الْغُرَّةِ وَتَكْرَارِ الْغُسْلِ ثَلَاثًا وتطبيق السنن الوادرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَكَارِه تَكُون فِي مُدَّةِ الْبَرْدِ أوعند ِشِدَّةِ الْبَرْد وَأَلَمِ الْجِسْم وَنَحْو ذَلِكَ وَأَطْلَقَ عَلَيْهَا الْمَكَارِهَ لِمَشَقَّتِهَا عَلَى الْعَامِلِ وَصُعُوبَتِهَا عَلَيْهِ ولذلك أُمِرَ الْمُكَلَّفُ بِمُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ وأنت ترى أن مما يكرهه الشخص وَيَشُقُّ عَلَيْهِ أن يَتوَضَّأُ مَعَ بَرْدٍ شَدِيدٍ وَعِلَلٍ يَتَأَذَّى مَعَهَا بِمَسِّ الْمَاءِ.
فمن علم ذلك هانت عليه مشقة القيام من النوم للوضوء والقيام بين يدي الرب جل في علاه وترك لذة الفراش الدافىء إلى لذة الصلاة ومناجاة العليم الخبير بل صارت المشقة والألم الحاصل في الوضوء عند البرد لذة لا تعدلها لذة.
مع التنبيه على أنّ بعض أهل العلم ذكروا أنّ "تسخين الماء لدفع برده ليقوي على العبادة لا يمنع من حصول الثواب المذكور".
ودمتم